الأولمبياد- صراع القيم الجديد وتحديات الزعامة الروحية والفكرية.

المؤلف: د. خالد حاجي10.16.2025
الأولمبياد- صراع القيم الجديد وتحديات الزعامة الروحية والفكرية.
في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية بباريس، لم يكن التطاول على الثوابت المسيحية مجرد حادث عابر، بل هو إيذان ببدء حقبة جديدة في العلاقة بين الثقافة العامة والقيم الروحية والفكرية. لقد استغل المنظمون رمزية هذا الحدث لإيصال رسالة مفادها أن الغرب قد قطع بالفعل الروابط مع القيم والأخلاق الدينية الراسخة، وتبنى مرجعية أخلاقية وقيمًا مستحدثة. إن إعادة تمثيل "العشاء الأخير" للمسيح عليه السلام، بطريقة مسرحية مبتكرة، يشير إلى أن مرحلة ما بعد الحداثة قد بلغت ذروتها في تقويض القيم الثقافية الدينية التقليدية، واستبدالها بقيم جديدة قادرة على استيعاب كل شيء، من المعنى واللامعنى، إلى الإيمان والكفر، والخير والشر، أو باختصار: الشيء ونقيضه. لقد كان الهدف من احتفالات افتتاح الألعاب الأولمبية هو الإعلان الرسمي عن دخول حقبة تاريخية جديدة، تتسع فيها الثقافة الغربية لتشمل كل شيء، مهما كان غريبًا أو شاذًا. ففي عصر يتم فيه إضفاء الطابع الشخصي على الثقافة، يصبح مفهوم الشذوذ نفسه شيئًا شاذًا وغير مألوف. لا شك أن إعلان انتصار الثقافة المتحررة من قيود المسيحية وتراثها الروحي العظيم سيكون له تداعيات كبيرة، ليس فقط على مستوى العلاقة بين المكونات الثقافية الغربية داخليًا، بل أيضًا على مستوى علاقة الثقافة الغربية بالعالم الخارجي. ومن المؤكد أن هذه المنظومة القيمية المستجدة ستعيد صياغة طبيعة العلاقة بين الغرب والعالم العربي والإسلامي. عندما يقرأ المرء كتاب «برنارد لويس» عن "الإيمان والسلطة"، يجد فيه تجسيدًا حيًا لوعي غربي دفين بأن العلاقة بين الثقافات هي علاقة تنافس وصراع، ومثالًا عمليًا يوضح كيف وظف الغرب الثقافة باستمرار لتحديد وإملاء معايير الزعامة الروحية والفكرية في العالم العربي والإسلامي. وهذا ما سعى «إدوارد سعيد» إلى إبرازه في كتابه عن "الثقافة والإمبريالية". فمن المعلوم أن الغرب، في سعيه الدائم إلى فرض هيمنته، ظل يعمل على تسخير الثقافة وتعبئة المثقفين من أجل إخضاع الثقافات الأخرى، بما فيها الثقافة العربية والإسلامية، وذلك عن طريق قطع هذه الثقافات عن مرجعياتها الروحية والفكرية الأصيلة. الجديد الذي تسلط عليه الضوء احتفالات باريس، هو أن الغرب قد وصل إلى مرحلة تاريخية لم يعد فيها مهتمًا بتوظيف الثقافة لتحقيق الهيمنة الإمبريالية، بقدر اهتمامه بما يمكن أن نطلق عليه "اللا ثقافة". ومن هذا المنطلق، يمكننا القول إننا بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة الإطار المفاهيمي؛ لفهم طبيعة العلاقة بين الغرب والثقافة العربية والإسلامية، والتحول من دراسة العلاقة بين "الثقافة والإمبريالية" إلى دراسة العلاقة بين "التكنولوجيا والإمبريالية". ممّا لا جدال فيه أن الإنسان في المجتمعات العربية والإسلامية يشعر اليوم بأنه ضحية في عالم وصل إلى أقصى درجات العنف والعبثية، وهذا يولد لديه حالة من الحيرة والقلق المستمر. فتراه تارة يبحث عن تفسير ميتافيزيقي لما يحدث، ويلجأ إلى المنظومة الدينية والفقهية عله يجد الجواب الشافي؛ وتارة أخرى يقبل على الخطابات الفكرية والفلسفية، باحثًا عن التحليل العقلي والبرهان المنطقي لتعليل الأحداث الجارية من حوله. ويستقي هذا الإنسان من مختلف التفسيرات والتحليلات المنتشرة في بيئته الاجتماعية؛ لكي يجد مخرجًا من هذا الضيق النفسي والحرج الحضاري والمأزق الأخلاقي الذي يواجهه. ليس من الغريب في ظل هذه الحيرة أن تبرز الحاجة الماسة إلى زعامات روحية وفكرية يُناط بها مسؤولية صياغة تصور صحيح للواقع، وتحديد السبل الكفيلة للخروج من هذا الوضع. ولا شك أن مفهوم الزعامة الروحية والفكرية نفسه بحاجة إلى إعادة تعريف وتصور صحيح. فبعد أن كان الزعيم الروحي أو الفكري هو ذلك الشخص الذي يفرزه الفضاء الثقافي العام ليضطلع بمسؤولية التعبير عن المجتمع والأمة، أصبح هذا الزعيم مجرد مؤثر تحدد الخوارزميات نطاق تأثيره في فضاء رقمي يتسم بالتشتت والتجزؤ. قبل الخوض في التحديات التي تواجه الزعامة الروحية والفكرية في الثقافة العربية والإسلامية في عصر الهيمنة التكنولوجية، يجدر بنا أن نتوقف قليلًا عند مفهوم هذه الزعامة، وكيف تجسدت في تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية. لقد حاول ابن خلدون في مقدمته، على سبيل المثال، أن يستشكل قضية الزعامة، وذهب إلى القول بأن «العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة». وعرض في معرض تعليله لهذا الأمر تفاصيل نفسية دقيقة. ولعل هذا ما يدفع الكثير من زعماء الفكر في العالم العربي والإسلامي إلى الاجتهاد من أجل تأسيس سلطة الفكرة، أو الأفكار التي يبشرون بها، على أساس روحي ديني. نستخلص من هذا أن الفضاء العام في السياق العربي والإسلامي يقوم في الأصل على الاحتكام إلى منطق السرديات الروحية والفكرية التي تحظى بإجماع الأغلبية. أما اليوم، ومع هذا النزوع المتزايد نحو إضفاء الطابع الشخصي على هذا الفضاء، فقد أصبح فضاءً هجينًا يعتمد فيه الفرد في بنائه على ذاكرته وعواطفه الشخصية. لقد بات عالم الهجنة القائم على المزج بين الافتراض والواقع يوقظ شعور الفرد بالقدرة على تقمص دور الزعامة الروحية والفكرية. فالفرد اليوم، وهو يشير إلى هذا الزعيم الروحي أو ذاك المفكر، إنما يثبت زعامته هو وتميزه في الاختيار والانتقاء. لقد مكّنت الأدوات التكنولوجية الفرد من استدعاء الزعامة الروحية والفكرية بطريقة تتكيف مع متطلبات الفضاء الشخصي، والحاجة الماسة للفرد إلى البروز والظهور وإثبات الذات. لا شك أن الثقافة العربية والإسلامية ليست بمنأى عن تأثيرات منظومة ما بعد الحداثة القيمية. وعليه، يمكن القول إن دور الزعامة الروحية والفكرية في هذه الثقافة في انحسار وتراجع مستمر، وذلك أمام ما تتيحه الفضاءات الرقمية من مجالات واسعة لإثبات الذات وتحقيق الشهرة. المؤكد أن هذه الزعامة لم تعد تملك الأدوات الفعالة لتحريك الواقع في عالم التواصل المستجد. فمن الواضح أن تدفق الصور والمعلومات المتواصل، في ظل عالم التواصل الرقمي الواسع، حيث كل شيء زائل وعابر، أصبح يحول دون رسوخ التجارب الروحية والمقولات الفكرية الراسخة. فربما أصبح تعلق البصر بتفاصيل الأحداث اليومية التي لا تنتهي يضيق مجال النظر بالبصيرة. ونحن نعلم جيدًا أن الزعيم الروحي والفكري يدعو الناس إلى التبصّر، لا إلى الإبصار السطحي فحسب. ليس المقصود مما سبق، القول إن محاولة تأسيس الفكرة الفلسفية السياسية على أساس روحي ديني قد نجحت في رأب الصدع بين الجانب الروحي والجانب الفكري المتعلق بالاجتماع البشري. هذه المحاولة ظلت ثابتًا من ثوابت كل الحركات الإصلاحية الدينية في الوطن العربي والإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر على أقل تقدير. تشير كل الدلائل إلى صعوبة الجمع بين الزعامة الروحية الدينية والزعامة الفكرية السياسية، كما تدلّ في الوقت نفسه على صعوبة الفصل بينهما، وهو الفصل الذي يفضي إلى ضرب من العلمانية التي تقوم على أساس تخليص الفكرة والفعل السياسيين من شوائب الدين ونزع القداسة الروحية عنهما. فعند التأمل نجد العالم العربي والإسلامي اليوم يتأرجح بين رغبتين متضاربتين، الرغبة في الجمع بين الزعامة الروحية الدينية والزعامة السياسية، وبين الرغبة في الفصل بين هاتين الزعامتين. إذا كان العالم العربي والإسلامي لا يزال في مرحلة الصراع حول الجمع أو الفصل بين الديني الروحي والسياسي الفكري، وهو صراع لا يزال مرتبطًا بالفضاء العام ومنطق الأغلبية والأقلية إلى حد بعيد، فإن القائمين على تنظيم احتفالات باريس بمناسبة افتتاح الألعاب الأولمبية يؤكدون أن الصراع قد خرج من دائرة الدين والعلمانية باتجاه أفق قيمي جديد، هذا الأفق الذي حالت الثقافة العربية والإسلامية دون ظهوره خلال بطولة العالم لكرة القدم التي أقيمت في قطر. الراجح أن المنظومة القيمية التي حاول منظمو حفل افتتاح ألعاب باريس الأولمبية إبرازها، ستحدد شكل الصراع القادم ليس بين العالم الغربي والعالم العربي والإسلامي فحسب، بل بين العالم الغربي وبقية الثقافات، بما في ذلك ثقافته الموروثة. ولعل من يدقق النظر فيما تعد به هذه المنظومة من حريات فردية لا حدود لها، يجدها لا تخلو من المبالغة وردود الأفعال، ويحملها على أنها حريات تنطوي على هدم كل الزعامات الروحية والفكرية للمجتمعات، بل وتقويض فكرة المجتمع في أساسها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة